حكمة النبي وتوحيد قريش- رؤى أدبية وفكرية حول وضع الحجر الأسود

المؤلف: د. عصام تليمة11.10.2025
حكمة النبي وتوحيد قريش- رؤى أدبية وفكرية حول وضع الحجر الأسود

في مقال سابق، أشرت إلى أهمية الكتابة المقارنة في السيرة النبوية، مؤكدًا على ندرة هذا النهج وأثره القيّم في إثراء فهمنا لشخصية النبي محمد صلى الله عليه وسلم. فمعظم الدراسات تتبع مسارات تقليدية، سواء كانت سردًا تاريخيًا للأحداث أو تحليلًا موضوعيًا. أما النهج الجديد الذي أدعو إليه، فيركز على تناول حدث معين، ثم استعراض وتحليل رؤى مختلفة للكتاب والمفكرين حول هذا الحدث. من خلال تجميع هذه الرؤى المتباينة، نتمكن من رسم صورة شاملة ومتعددة الأوجه للسيرة النبوية، تجمع بين التحليل الفكري والجمال الأدبي.

لقد استشهدت بمثال وفاة إبراهيم، ابن النبي صلى الله عليه وسلم، بناءً على اقتراح الدكتور محمد رجب البيومي، وأشرت إلى وجود رؤى ونظرات أخرى متباينة. ولاقى المقال استحسانًا من بعض المختصين، الذين طلبوا تقديم نموذج آخر لتوضيح الفكرة. لذا، اخترت حدثًا غالبًا ما يتم المرور عليه سريعًا في كتب السيرة، ولكنه يحمل في طياته دلالات عميقة، إذا ما تم فحصه وتحليله بعناية.

أبو أمية: (في غضب) من هذا الرجل؟ قريش: هذا شيخ من نجد. أبو أمية: بل إنه الشيطان.. أغرب أيها الرجل، لا شأن لك بما نحن فيه. إن هذا الغلام لخليق أن يجمع رأي العرب يومًا، وأن يوحد الناس..).

موجز قصة وضع الحجر الأسود

الحديث هنا عن قصة بناء الكعبة المشرفة ووضع الحجر الأسود في مكانه. فقد اجتمعت قريش والعرب على تجديد بناء الكعبة بعد تضررها، واشترطوا ألا يستخدموا في بنائها مالًا حرامًا. وبعد الانتهاء من البناء، نشب خلاف شديد بين القبائل حول من سينال شرف وضع الحجر الأسود، وكاد الأمر أن يتطور إلى قتال. ولتهدئة الأوضاع، اتفقوا على التحكيم، واختاروا أول من يدخل عليهم من باب الصفا، وكان هو النبي محمد صلى الله عليه وسلم.

فوافقوا على حكمه، فبسط رداءً، وطلب من كل قبيلة أن تمسك بطرف منه، ووضع الحجر الأسود في الرداء، ثم قام بوضعه في مكانه. وقد أرضى هذا الحل الجميع، رغم محاولات الشيطان لإثارة الفتنة والتحريض على الحكم الشاب.

وقفات الأدباء مع القصة

هذه هي القصة باختصار، ولكنها ألهمت العديد من الكتاب والمفكرين، الذين استخلصوا منها دروسًا وعبرًا. وبلغ الإبداع ببعضهم حد إعادة صياغة القصة بأسلوب أدبي خلاب، يجعلك تشعر وكأنك تقرأ قصة جديدة تمامًا. سنبدأ برؤى الأدباء والمفكرين، ثم ننتقل إلى آراء العلماء والأدباء من علماء الأزهر.

توفيق الحكيم، الأديب والروائي، في كتابه "محمد الرسول البشر"، قدم السيرة النبوية بأسلوب حواري أدبي، مع الحفاظ على الأحداث كما وردت قدر الإمكان. وقد عبر عن وجهة نظره في دلالة هذا الحدث على لسان أحد الحاضرين، ناقلًا عبارة الشيطان لتحريض قريش على النبي صلى الله عليه وسلم: "يا معشر قريش، أرضيتم أن يضع هذا الركن وهو شرفكم، غلام يتيم دون ذوي أسنانكم؟!"

أبو أمية: (في غضب) من هذا الرجل؟ قريش: هذا شيخ من نجد. أبو أمية: بل إنه الشيطان.. أغرب أيها الرجل، لا شأن لك بما نحن فيه. إن هذا الغلام لخليق أن يجمع رأي العرب يومًا، وأن يوحد الناس..).

أما طه حسين، في كتابه "على هامش السيرة"، فقد سرد السيرة النبوية بأسلوب الحكّاء، بلغة أدبية رفيعة، ممزوجة بالتأمل الفلسفي. وقد صور الموقف من خلال الراوي قائلًا: "فلا يلبثون أن يدخل عليهم من الباب رجل شاب، لم يروَ أجمل منه طلعة، ولا أعظم منه هيبة، ولا أحسن منه سيرة في قومه. سمعت من أنبائه الشيء الكثير. ولكني استيقنت أنه رجل عظيم الخطر، حين رأيتهم ينظرون إلى مقدمه مبتهجين ويصيحون: "هذا الأمين، قد رضينا، هذا محمد، قد سلمنا" ثم يعرضون عليه الخصومة، فما رأيت وقارًا كوقاره، وما رأيت أناة كأناته، وما رأيت هدوءًا كهدوء نفسه، وما رأيت رجلًا أرفق منه بقومه، وأعطف منه عليهم، وآثر منه لهم بالخير، وانظروا إلى قضائه فيهم، فسترون كما أرى أنه لم ينتج عن تفكير إنسان، وإنما كان إلهامًا من الله… وقد اطمأنت قلوبهم إلى هذا العدل، واستبشروا بما كف عنهم من الشر، وبما عصم لهم من الأنفس، وحقن لهم من الدماء."

وقفات المفكرين والعلماء

بعد أن استعرضنا بعض آراء الأدباء، ننتقل إلى تحليل العلماء والمفكرين للحادث. فقد رأى الشيخ الغزالي أن حل النبي صلى الله عليه وسلم كان حلاً حكيمًا ومقبولًا، يعكس مكانته الرفيعة وثقتهم به. فمنذ القدم كانت رؤيتهم لمحمد صلى الله عليه وسلم مثار تيمّنهم واطمئنانهم، وهذا يدل على علوّ شأنه بينهم.

محمد رواس قلعجي، في كتابه "قراءة سياسية للسيرة النبوية"، نظر إلى الأمر من زاوية أخرى، قائلًا: "فتوجهت الأنظار إلى محمد، ولهج الناس بذكره، واعتبروا ذلك دليلًا على سعة مداركه، وسرعة تصرفه بحكمة في الأزمات، وهو ميدان أولي العقول الراجحة. فكان ذلك رصيدًا له يفيده في المستقبل عندما يدعو الناس إلى الله، ويتسلم عصا القيادة في دولة الإسلام."

أما خالد محمد خالد، المفكر والأديب، فقد رأى في هذا الحدث إرهاصًا لرسالة النبي صلى الله عليه وسلم، وعلاقته بالمختلفين بقوله: "فإن النبي – صلى الله عليه وسلم – بسط رداءً وجعل كل قبيلة تمسك بطرف، ليتشارك الجميع، وهو ما عبر عنه خالد بأن المعنى هنا معبر عن أسلوب نمط تفكير لديه، وهو التوفيق بين المختلفين، فيما يعد قاسمًا مشتركًا بينهم. ويكون بذلك منهجًا وسطًا، يبتعد عن الإفراط أو التفريط، يحاول تقريب من فرط أو أفرط، دون تنازل منه عن الحق والحقيقة، فهو منهج توفيق لا منهج تبرير أو نفعية، فقد كانت طريقته في حل هذه المشكلة إرهاصًا للمنهج الذي سيتبعه في حل مشكلات الناس فيما بعد، ومشكلات الخلاف بين أتباع الديانات المختلفة."

ويضيف أن "من أخرج قريشًا من حَيرتها يوم التحكيم، سيقدر له في غدٍ أن يخرج العالم كله من حَيرته وضلاله، مرسلًا إليه من ربّ العالمين."

الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي رأى في الحادثة دليلًا على حكمة النبي صلى الله عليه وسلم في تدبير الأمور وحل النزاعات، خاصة بين أقوام قلما انتهت خلافاتهم قبل إراقة الدماء. وأرجع البوطي هذا إلى اختيار الله له لحمل الرسالة والنبوة، وليس فقط إلى العبقرية والذكاء الفطري. فالنبوة هي الأساس، والمزايا الأخرى مبنية عليها.

ويمكننا إضافة أن البعض قد يرون أن هذه الفرصة التي سنحت للنبي صلى الله عليه وسلم كانت مفاجئة وعفوية، ولكن الأهم هو أن الفرص قد تأتي للكثيرين دون أن يتمكنوا من استغلالها. فلولا إعداد النبي صلى الله عليه وسلم ومواهبه وملكاته المتعلقة ببشريته ونبوته، لما تجلت هذه الحكمة. فالإنسان العميق ينتظر الفرصة لإبراز قدراته وإثبات جدارته.

هذه مجرد مقتطفات من تأملات الأدباء والمفكرين في هذا الحدث، وهناك العديد من الرؤى الأخرى، بما في ذلك آراء المستشرقين والكتاب الذين اعتمدوا المناهج المادية في كتاباتهم. وعلى الرغم من وجود بعض الملاحظات على هذه الكتابات، إلا أنها تسلط الضوء على جوانب مهمة وتضيف ومضات إلى السيرة النبوية العطرة، مما يدعم دعوتنا إلى استكشاف هذا الباب المهم في دراسة سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة